في جلسةٍ شبابيةٍ عادية، مثلما يجلس أي أردُنيّين أُترِعوا حُبّ الوطن ورضِعوا حُبّهُ مع حليب الأُمّهات، جلس ثلاثتهم، كان غفوُ المساء يُرخي بِظلاله على المشهد، وبدأ الحديث يأخُذُ طابع البوح الهادئ، وفي الأثناء، كانت فِكرة تطرُق الأذهان، ماذا لو؟
من مِن شباب الأردنّ اليوم لم يُحدّث نفسه، من منهم لم تُغيِّره مشاهد الجسارة الفائقة، وصور بطولةٍ لم يتخيّل وجودها إلا على شكل أساطير، من مِنّا لم يمتلئ بالكرامة والعِزة في اليوم الذي غيّر وجه المنطقة، وما زالت آثارُه تُلقي بآثارها العميقة في العالم، عالم الناس اليومي، وعالم النفوس التي شهِدت نُسخاً من الإيمان والسموّ النفسيّ والتضحية وفناء الذات، ظنّها الكثيرون قد درَست مع موت آخرِ تابعيّ، من منهم لم يستذكر قول الذي لا ينطق عن الهوى : " من مات ولم يغزُ، ولم يُحدِّث نفسه بغزو، مات على شُعبةٍ من النفاق".
كانت أحاديث وأسارير أسرّها شابٌّ إلى أخِلّائه، انقدح عزم الرجالِ بنَفَس الرّجال، بدؤوا البحث، أمسكوا ببعض الخيوط ودرسوا بعض النماذج، تبلورت بعض الأفكار، وفي فترةِ سكونٍ سبقت إنتاج أيّ شيء، اقتُحِم بابُ البيت وصودرت كُل الأجهزة الإلكترونية، وأُخذَ عبدالعزيز ورفاقهُ إلى قبوٍ تحت الأرض.
لم يُعثر على أية درونات أو رقائق، لم يجد المُفتّشون أي تطبيقٍ عمليٍّ للأفكار، لم يجدوا سوى ثلاثة مُسدساتٍ " مُرخّصة " ومسجلة قانونياً، عادت مِلكيتها لوالد عبدالعزيز، إذ كان مُولعاً بحُبّ السلاح، إلا أن ترخيصه لم يكن ليكون، لو كان من اقتناه ينوي استعماله في أفعال الخطيئة والإثم.
تساءل البعضُ عن علاقات والده بتُجّار السلاح، لم يعرِفوا أنهم بسؤالهم، أثبتوا أنهم لم يزوروا وسط البلد يوماً، فالشارع المُمتدّ من المسجد الحسيني إلى ساحة النخيل، تترامى على أطرافه أكثر من عشرة متاجر مُرخّصة لبيع السلاح !
درس عبدالعزيز هندسة الطيران ، وقبلها تربّى في عائلة مُتعلّمةٍ ومثقفة، من عائلات الطبقة الوسطى في عمان، فجدهُ لأمه هو الشيخ عبدالعزيز جبر، الذي كان نائباً في البرلمان الأردني لدورَتين، وجدُّه لأبيه هو الشيخ عزّام هارون، وهو نائبُ مُدير جمعية المحافظة على القرآن الكريم، وأحد أعلام العمل التطوعي والخيري في الأردن، وأمّهُ هي الإعلامية الأستاذة دعاء جبر، والتي قدّمت برنامج " بيتك عامر " على قناة اليرموك منذ اثني عشر عاماً وحتى إغلاق القناة في العام الماضي، تتناول فيه قضايا تربية الأبناء والإرشاد الأسري وتعزيز القيم التي تُنتج مُجتمعاً مُتراحماً، ولم يُسجّل عليها في يوم من الأيام خلال ساعات البثّ الطويلة، أن قالت كلمةً تؤذي المُجتمع الأردني وقيمه وعاداته، أما والده، فهو ناشطٌ في العمل الخيري ومؤسسٌ لعدة مراكز لرعاية الأيتام، وعضوٌ منتخب حاز ثقة مُجتمعه وأهله ومثّلهم في مجلس محافظة عمان، يُساهم بإيجابيةٍ في تطوير مُجتمعه، ونائبُ مدير شركةٍ تجاريةٍ في عمان، أما أخواهُ الشقيقان، فقد درس كلاهما تخصص " دكتور صيدلة".
هل كان من المُمكن أن ينسى الجُرح السيّال، ودم الأبرياء المُنسكب، ورائحة احتراق اللحم البشري التي يستشعرها المرء في صورة الجُثث المُتفحمة، هل ينسربُ النوم إلى عينيه فيَنام، ومشاهد الهدمِ والفتكِ تتراءى أمام عينيهِ كُلما انقلب على أحد جَنبَيه ؟ كثيرون نَسوا، أقنَعوا أنفسهم بانعدام الحيلة، وبأن تمتمة بعض الجُمل المنمّقة والمسجوعة من الدّعاء تُعفي من واجبات الرِّجال، كثيرون شاهدوا ما يحدُث، غضِبوا قليلاً، شتموا وكتبوا على حساباتهم، ثم شيئاً فشيئاً، عادوا إلى روتين حياتهم اليوميّ، حتى أن صور الأشلاء صارت تُزعِجُهم، فصاروا يُقلبون الصفحات سريعاً عند رؤيتها، لخداع أنفسهم بأنها لم تعد موجودة. أنا وأنت، كثيرون مثلُنا، استطعنا فِعل ذلك، وضحِكنا مُعجَبين من قُدرتنا على التكيُّف، وعُدنا إلى دائرة الجري في المكان اليومية.
ولكن عبدالعزيز لم يستطع !
مُهندسُ طيران، نعمَ العِلم الصالحُ للرجل الصالح ..
فكّرَ عبدالعزيز، وأضمرَ في ذاتهِ أن يُحوِّل الفكرة إلى نيّةٍ صادقة، والنية إلى مُحاولةٍ تُسنِدُ أولئك الصامدين خلف الجدار، الذين ما زالت الجرائم تُرتكب بحقهم منذ أكثر من ثمانين سنة. أولئك الذين جعل منهُم الجدارُ نوعاً إنسانياً، وجعلَنا نوعاً آخر، أو هكذا أرادوا لنا، بعد أن كُنّا أهلاً وأنسابَ ودماً واحد.
يُعتقل اليوم عبدالعزيز، هو ورفاقه الذين كان اهتزازُ ضمائرهم أعَزّ عليهم من الاكتفاء بمُقاطعةٍ هُنا أو مُظاهرةٍ هُناك، ويُحاسبون على ارتفاع مُعدّلات الشهامة في دِمائهم.
في المقطع المنشور من " الاعترافات "، كان هادئ القسَمات، تسكُن الطُمأنينة تعابيره، ويلوحُ وِجهُه بالبِشر، أهذا وجهُ من يؤذي وطنه ويُتهم بتُهم الخيانة والإرهاب، أم أنهُ وجهُ النُّبلِ ومُحيّا الصدق الذي يفتدي الأردنّ بروحه حين الحاجة، ولا يُوجّه شوكته إلا باتجاه العدوّ، عدوّنا جميعاً !
لو أنّ الجُغرافيا اختلَفت، لو أنّ الزمان كان غيرَ الزمان، لو أن ضيم الأيام كانَ أرحمَ بالكِرام، لو أنّ العربَ كانوا غيرَ العرب، لو أنهم احتضنوا فكرة النضال والمقـ.ـاومة ضد الاحتـ.ـلال، لكان عبدالعزيز اليوم، رئيس قسمٍ من أقسام تطوير التقنيات التي يحسبُ لها العدوّ ألف حساب، ولرُبّما شهِدنا عيّـ.ـاشاً بنُسخةٍ أردنية، إلا أنها أيّامُ عُلوِّ اللئام وأزمِنتهم، لا أبطأ اللهُ انقضاءها.
لو كان الزمانُ غير الزمان، لرأينا فارِساً نادر الحدوث، ولكنّ غبار التيه الكثيف، وانطفاء الضوء في هزيع الليل، سيُخفي نفائس الرجال، إلى أن يأذن الله.
صبراً يا عبدالعزيز، صبراً يا قلوب أبويهِ ومُحبّيه، فوالله لن يُضيِّعهُ اللهُ أبداً.
الله غالب.