العزلة

لا نستطيع أن نوجد أو نستمر بدون الولايات المتحدة- بيريز.

في الوقت الذي شهدت فيه الدوحة اجتماعًا لقادة العالم الإسلامي تضامنًا مع قطر، كان المشهد الدبلوماسي الأمريكي يذهب في اتجاه معاكس تمامًا؛ فقد تزامن ذلك الاجتماع مع جولة لوزير الخارجية الأمريكي في المنطقة؛ حيث قام بزيارات رمزية ومباشرة تعكس انحياز واشنطن، شملت التجول تحت المسجد الأقصى والوقوف عند حائط البراق، ولقاء المستوطنين، ليوجه رسالته إلى نتن ياهو تؤكد الدعم الأمريكي المطلق.

وبينما تعالت أصوات زعماء العالم من منصة الأمم المتحدة معلنة اعترافها بالدولة الفلسطينية، كان مجرم الحرب نتن ياهو يستضيف أضخم وفد برلماني أميركي يضم ممثلين عن الحزبين الرئيسيين، في إشارة صريحة مفادها: «إن كنتم تسعون لوقف المجزرة، فنحن مصممون على مواصلتها».

يبدو أن رسالة الكيان واضحة: «طالما الولايات المتحدة في صفنا، فلماذا نأبه لموقف بقية العالم؟» غير أن هذه الثقة الظاهرية تخفي وراءها قلقًا عميقًا من العزلة الدولية المتنامية، ومن الموجة العالمية المتصاعدة المؤيدة للقضية الفلسطينية والمناهضة لوجوده.

في سياق سعيه لمواجهة العزلة المتزايدة، لجأ نتنياهو إلى سياسة الأكاذيب المنهجية؛ حيث زعم زورًا أن الدول التي دعمت إيران - مشيرًا تحديدًا إلى الصين وقطر دون أساس - تقف خلف العمليات الموجهة ضد الكيان. بل تجاوز ذلك بادعائه أن أسطول «فلوتيلا» كان من تنظيم حركة حماس. لكن هذه الادعاءات الكاذبة سرعان ما فضح زيفها تقارير المنظمات المستقلة لمراقبة المعلومات وشركات الأمن السيبراني المتخصصة، التي كشفت النقاب عن شبكات دعاية إلكترونية ضخمة تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لترويج الرواية الصهيونية.

من أبرز أدوات هذه الحملات مواقع مثل: Non Agenda وUnfold Magazine، التي تعيد نشر محتوى من مصادر إخبارية موثوقة بعد التلاعب به وتحريفه ليتوافق مع الخطاب الدعائي الصهيوني ويبرر جرائم الإبادة في غزة. كما استُخدمت روبوتات الذكاء الاصطناعي، ومنها AI FactFinder، في نشر معلومات مضللة أخرى، بما في ذلك الزعم الكاذب بأن وكالة «الأونروا» توظف عناصر تابعة لحركة حماس.

على الرغم من تفاقم حالة العزلة الدولية التي يواجهها، يصرّ الكيان على امتحان قدرته على الاستمرار دون غطاء شرعي عالمي. فمنذ تأسيسه عام 1948، تحدى منطق الجغرافيا ومسار التاريخ، مشيدًا مشروعه على ركيزة وحيدة: البقاء بأي ثمن. فحروبه تُشنّ من أجل البقاء، واتفاقيات سلامه تُعقد من أجل البقاء. لكن هذا الهاجس المحوري - البقاء مهما كان الثمن - ظل محل تساؤل وشك مستمرين.

لكن البقاء وحده لا يكفي دون قبول، والقبول هو جوهر الشرعية. فحين يرتكب الكيان عمليات إبادة في غزة، أو يستهدف دولة قطر، أو يمارس عدوانه في أجواء المنطقة، قد يحقق أمنًا آنيًا عابرًا، إلا أنه يفقد ثقة المجتمع الدولي؛ وهذه الثقة المفقودة تتراكم كجبل جليدي يتعاظم حتى ينهار فوقه. فهل يُتصوّر، في عالمنا المترابط الذي أصبح كقرية واحدة، أن يستمر كيانٌ دون قبول أو شرعية حقيقية؟

قد يذهب البعض إلى القول بأن ذلك ممكن؛ فكوريا الشمالية لا تزال قائمة رغم كل شيء، وإيران صامدة في وجه العقوبات المتواصلة، إلا أن كليهما يدفع ثمنًا فادحًا يتمثل في عزلة خانقة وركود اقتصادي مزمن. لكن حالة الكيان تختلف جذريًا؛ فهو صنيعة غربية أنشأه الغرب ومنحه الشرعية والحماية الدولية، ولولا دعمه المطلق له في السابع من أكتوبر لما استطاع الصمود طويلًا. فالكيان مرتبط عضويًّا بالاقتصادات الغربية، ويعتمد اعتمادًا شبه مطلق على الدعم الأمريكي في مجالات التجارة والتكنولوجيا والاستثمار. تتدفق إلى اقتصاده مليارات الدولارات، وتستثمر فيه أكبر الصناديق المالية العالمية، ويتمتع بدعم سياسي وثقافي يجعله جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الغربية.

إلا أن تبعات العزلة لا تظهر بشكل فوري؛ فالمجتمع الدولي وجّه انتقادات لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لعقود طويلة قبل أن يبدأ فرض الحصار الاقتصادي والسياسي عليها، ثم تصاعد الضغط بالتدريج حتى انهار ذلك النظام بالكامل. ويعتقد الكيان أن استمراره يمثل مصلحة استراتيجية للغرب، باعتباره قاعدة عسكرية متقدمة وأداة ردع في وجه خصومه، وأن الغرب لن يتخلى عنه مهما كانت الظروف. إلا أن هذا الرهان قد يتحول إلى مغامرة كبرى محفوفة بالمخاطر تنتهي بفشل ذريع.

لم تعد التعبيرات من قبيل «عقد الزواج» - التي استخدمها السفير الأميركي لدى الكيان لوصف العلاقة بين البلدين - أو الإشارة إلى نفوذ «إيباك»، أو تسمية الكيان بـ «الولاية الحادية والخمسين»، سوى عبارات استفزازية تثير سخط وغضب الشباب الأميركي وتدفعهم نحو موجة تمرد متزايدة.

سيعود أعضاء الكونغرس الأميركي من جولاتهم في الكيان غير آبهين بمعاناة مليوني فلسطيني في غزة يواجهون أبشع حملة إبادة، عائدين بجيوبهم المحملة بوعود مشاريع استثمارية لمرحلة ما بعد غزة وبتمويلات «إيباك»، ليصوتوا في الكونغرس لصالح مزيد من شحنات السلاح والدعم العسكري. لكن ثمة جيلًا أميركيًا شابًا يتنامى وعيه، وقد يحاسبهم على مواقفهم هذه في صناديق الاقتراع القادمة.

ويبقى التساؤل المحوري قائمًا: إلى متى يعتقد الكيان أنه قادر على الاستمرار في عزلة عن المجتمع الدولي، معتمدًا على القوة العسكرية وحدها ضمانًا لبقائه؟

الدستور الأردنية

اقرأ أيضًا

زر الذهاب إلى الأعلى