ما الإرادة إلا كالسيف، يُصدئه الإهمال ويشحذه الضرب والنِّزال- عباس محمود العقاد.
مارست الولايات المتحدة حق النقض في مجلس الأمن خمس مرات متتالية، عرقلت من خلالها جميع المحاولات الدولية لوقف المجزرة المستمرة في غزة. شكّل يوم الأربعاء 27 أغسطس 2025 لحظة فاصلة معيبة في التاريخ البشري، حيث انعقدت جلسة طارئة لمجلس الأمن شهدت إجماعًا من أربعة عشر عضوًا من أصل خمسة عشر، طالبوا بضرورة السماح بدخول المساعدات الإنسانية العاجلة إلى غزة، مؤكدين أن المجاعة التي تضرب القطاع جريمة مقصودة، ومطالبين بوقف فوري لإطلاق النار.
في تحدٍّ صارخ للإجماع الدولي، بادرت المندوبة الأمريكية دورثي شي إلى استخدام حق النقض لإسقاط هذه القرارات الإنسانية البديهية، متجاهلة التقارير الموثّقة حول المجاعة في غزة، واعتبرت الاتهامات الموجهة للاحتلال الإسرائيلي بارتكاب جرائم ضد الإنسانية مجرد ادعاءات لا أساس لها. بل ذهبت أبعد من ذلك عندما أكدت على «الحق المشروع» للكيان الصهيوني في «الدفاع عن النفس». بهذا الموقف المتعنت، منحت واشنطن الغطاء السياسي لاستمرار سياسات التجويع والإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد سكان غزة.
وجدت الولايات المتحدة نفسها في عزلة دولية شاملة، حيث وقفت بمفردها في مواجهة الإرادة الجماعية للمجتمع الدولي المُمثّل في مجلس الأمن. أعلن أعضاء المجلس بوضوح أن هذه المؤسسة الأممية باتت مشلولة تمامًا وفاقدة للفعالية في أداء مهامها الأساسية. تصدّرت الدول العربية، بقيادة الجزائر، المطالبات بوقف عمليات الإبادة الجماعية في غزة وإحالة القضية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، محمّلة استخدام الفيتو الأمريكي المتكرر المسؤولية الكاملة عن تعطيل قرارات وقف المجازر وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية.
أظهرت الدول الأفريقية، بزعامة جنوب أفريقيا، شجاعة استثنائية عندما وجّهت اتهامات مباشرة لمجلس الأمن بحماية الجناة على حساب الضحايا، مطالبة بفرض عقوبات صارمة على الدول التي تعرقل تطبيق قرارات الشرعية الدولية.
من جهتها، دعت دول مجموعة «البريكس»، ممثّلة بالبرازيل، إلى إيجاد آليات بديلة وفعّالة لضمان وصول المساعدات الإنسانية، بينما طالبت روسيا بإنهاء الهيمنة الغربية على العملية السياسية وإتاحة المجال أمام قوى دولية أخرى للمشاركة في إيجاد الحلول.
أما دول أمريكا الجنوبية، وتحديدًا بوليفيا وفنزويلا وكوبا - والتي تعاني بنفسها من آثار التدخلات الأمريكية المدمّرة في شؤونها الداخلية - فقد تقدّمت بمطالب جذرية تتمثل في تفعيل قرار «الاتحاد من أجل السلام»، والذي يخوّل الجمعية العامة صلاحية فرض عقوبات على الكيان الإسرائيلي وتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني.
رغم هذا الزخم الدولي الاستثنائي والإجماع النادر، انتهت الجلسة دون تحقيق أي إنجاز ملموس على صعيد وقف إطلاق النار. عجز مجلس الأمن عجزًا مطلقًا عن اتخاذ أبسط الإجراءات التي تُلزم الاحتلال بوقف عدوانه، أو حتى ضمان الحد الأدنى من حقوق الإنسان للفلسطينيين - بدءًا من الحق الأساسي في الحصول على الغذاء، وانتهاءً بالحماية من سياسات التهجير القسري والتطهير العرقي.
نقف اليوم أمام واقع مرير لا يقبل التأويل أو المواربة: لقد تحوّل الفيتو الأمريكي إلى سلاح في ترسانة الكيان الصهيوني.
يواجه العالم اليوم مأزقًا حقيقيًا: مجلس أمن مُقعد بالكامل، أسير لآلية الفيتو الأمريكي المدمّرة، حيث لا قيمة تُذكر لأصوات أعضائه الأربعة عشر أمام سطوة هذا الحق المدمّر للإرادة الجماعية الدولية.
في ضوء هذا الانهيار المؤسسي الكامل، بات من الضروري والمُلحّ إنشاء كيان دولي بديل من خلال تحالف استراتيجي للدول الحرة والمستقلة في العالم. يجب أن يضم هذا التحالف التكتلات الاقتصادية والسياسية الكبرى مثل مجموعة «البريكس» و»منظمة شنغهاي للتعاون» وغيرها من القوى الصاعدة.
هذا المجلس البديل يجب أن يتمتع بالاستقلالية الكاملة عن قيود الفيتو المشلّة، ويمتلك آليات فعّالة وسريعة لضمان وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين، مع قدرة حقيقية على فرض عقوبات رادعة ضد مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية. كما يجب أن يضم قوات حفظ سلام مدرّبة وقادرة على التدخل السريع، ويتبنى خطابًا واضحًا وجريئًا يكشف المعايير المزدوجة في السياسة الدولية ويعيد الاعتبار لمفاهيم العدالة والقانون الدولي الحقيقيين.
كانت الشعوب العربية تتطلع بشغف إلى رؤية قياداتها تمارس ضغطًا حقيقيًا وجديًا على الأمم المتحدة، بل وتستخدم أوراق قوة حاسمة مثل التهديد بالانسحاب الجماعي من هذه المؤسسة المنحازة لإجبار الولايات المتحدة على إعادة النظر في مواقفها المدمّرة.
لكن أمام غياب هذا الموقف الشجاع والحازم، يبرز مسار بديل أكثر واقعية وقابلية للتطبيق: المساهمة الفاعلة والبنّاءة في التكتلات السياسية والاقتصادية الجديدة والصاعدة على الساحة الدولية. لا يشترط في هذه التكتلات أن تقطع علاقاتها نهائيًا مع الأمم المتحدة، بل يمكنها أن تعمل كقوة مكمّلة وداعمة لجهودها الإيجابية، مع التركيز على تمثيل إرادة الشعوب الحرة والمستقلة والسعي الحثيث لتصحيح الاختلالات الجذرية المتفاقمة في النظام الدولي الراهن.
الحقيقة المؤلمة والساطعة هي أن مجلس الأمن، بتركيبته الحالية وجلساته العقيمة المتكررة، بات عاجزًا عجزًا كاملاً عن إنقاذ ما تبقى من فلسطين المحتلة أو توفير الحماية الفعّالة للدول المعرّضة باستمرار للأطماع التوسعية الصهيونية.
في ضوء هذا الواقع المرير، لم يعد أمام العالم العربي سوى خيارين لا ثالث لهما: إما الاستمرار في دور الأسير المنكسر تحت وطأة الهيمنة الأمريكية والخضوع، وإما اتخاذ قرار استراتيجي جريء بالمساهمة الحقيقية في تأسيس وبناء مجلس دولي بديل يعيد الكرامة للمظلومين ويمنحهم فرصة حقيقية للحياة والعدالة.
هذا المشروع الطموح يمكن تحقيقه من خلال التعاون الوثيق مع التكتلات الدولية الصاعدة والمؤثرة مثل مجموعة «البريكس» وغيرها من القوى العالمية الجديدة التي تسعى لإقامة نظام دولي أكثر عدالة ومساواة.
الدستور الأردني