قبل نحو عام من حرب أكتوبر 1973 التقت الصحافية الإيطالية أوريانا فالاتشي مع رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير، وفي الحوار استعرضت مائير أسس النظرة الإسرائيلية حول الأمن والحدود، في ما يبدو أنه يرسي المبادئ الرئيسية تجاه ما تريده إسرائيل، وما تسعى لتطبيقه بخصوص وجودها في المنطقة. في تلك المرحلة كانت إسرائيل تعيش نشوتها التي أتبعت حرب يونيو 1967، حيث تمكنت من احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان.
لم تظهر مائير منفتحة على فكرة إعادة الأرض كلها، فما يخسره طرف في الحرب، لا يمكن أن يستعيده من خلال السلام من غير أن يمتلك أوراق قوة حقيقية، ولكن اللافت أنه لدى حديثها عن الضفة الغربية أكدت توجها لإعادة (جزء) منها للأردن، حيث لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية طرفا تقبل إسرائيل الاعتراف به أو التعامل معه، وشددت مائير على كلمة (جزء)، وعلى ألا يكون ذلك الجزء نواة لدولة فلسطينية، فوظيفتها، كما وصفت، أن تمنع قيام دولة (عربية) أخرى بين الأردن وإسرائيل.
مع تصاعد الحديث عن ضم الضفة الغربية، يبدو أن التصورات الإسرائيلية تتمدد، ولكن لماذا تحدثت مائير عن فكرة جزء من الضفة، يعني كل ما لا يمكن أن تستفيد منه إسرائيل عمليا، بمعنى أنه يحقق لها الميزة الاستراتيجية بعيدة المدى في الأمن، ففي اللقاء تبدي أن وجود الأردن وجيشه على مبعدة 15 كيلومترا من نتانيا، يضع احتمالا بمحاولة الوصول إلى البحر، يمكن أن يفصل الوجود الإسرائيلي في الشمال عن الجنوب، كما أن الأغوار، بجانب أهميتها الاقتصادية، تعني السيطرة على منطقة يمكن أن تشكل تحشيدا على حدودها الشرقية.
في خريطة حملت ترجمة لمطالب وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريش، يبدو أن فكرة الضفة الغربية تبقى من الثوابت الإسرائيلية، والجزء الذي يجري الحديث عنه يتخذ نفسه في مجموعة من مراكز المدن الكبرى، مع تأسيس كينونة ما يمكن وصفه بالقدس/ أورشليم الكبرى، بالتعدي على محيط واسع حول القدس يشمل، مدينة بيت لحم، مع رفض لتحويل السلطة الفلسطينية إلى دولة بأي معنى، بحيث تبقى مرتبطة بالشؤون الإدارية للمعازل السكانية التي تقيمها إسرائيل لاستيعاب الفلسطينيين الجيدين، الذين يلزمون الاقتصاد الإسرائيلي مع تجريدهم من إمكانية المقاومة والمبادرة والفعل أيا تكن طريقته أو اتجاهه.
في العمق، ماذا سيؤثر استيلاء إسرائيل على الضفة الغربية؟ وما الذي يغيره على أرض الواقع، خاصة أن القوات الإسرائيلية تدخل إلى عمق مدينة رام الله، عاصمة السلطة وتقوم باتخاذ إجراءات أمنية واسعة، في تعمد لإظهار أن الدور الأمني للسلطة لم يعد مبررا لوجودها، ولا ضرورة لوجود التنسيق، الذي كان قائما في الماضي، وتقوم إسرائيل بتجفيف موارد السلطة، للوصول بها إلى نقطة الفشل الكامل، أو إبقائها على حافة الانهيار، ليصبح التفاوض لاحقا حول بقاء السلطة لا قيام الدولة.
محاولة إنقاذ السلطة ترتطم بوقائع تتعلق بمحدودية الأوراق التي تمتلكها، فهي لم تعد خيارا أمريكيا، وحتى الدول الأوروبية التي تسعى إلى الاعتراف بدولة فلسطينية، غير قادرة على تدعيم نواتها المفترضة المتمثلة في السلطة، ولديها هي الأخرى ملاحظاتها حول أداء السلطة وشفافيتها، أما الدول العربية فكثيرا ما أبدت ملاحظات حول قدرة السلطة على تحقيق التزاماتها، ومنها المصالحة التي تأخرت وتأرجحت، وفوتت جميع الفرص لإتمامها من مكة المكرمة إلى الدوحة إلى بكين، والأردن الذي وقف مع السلطة بوصفها خيارا وجوديا، لأنها من ضرورات مواجهة فكرة الوطن البديل، فإنه كان يبدي ملاحظات كثيرة ويطالب بإجراء تغيرات دائما ما أتت شكلية وغير كافية.
قدرة السلطة على الاستجابة كانت مقيدة بالتدخلات الإسرائيلية المستمرة، والقبض على الحبل السري للعيش في الأراضي الفلسطينية، من خلال الترتيبات المالية، ومنح أوراق القوة لمن تقبلهم على الجانب الآخر من طاولة التنسيق، وقدرتها المستمرة على إحراج السلطة، فكانت النتيجة هي أن يصبح تمظهر السلطة لدى الفلسطينيين قبل غيرهم، منحصرا في شرطة المرور على دوار المنارة في رام الله، وعادة ما يفشلون في تحقيق مهمتهم في تنظيم لائق للمرور. لا تسعى إسرائيل إلى التخفف الكامل من السكان في الضفة، ولكن واقع الأمر أنها لن تصنع ستة قطاعات مشابهة لغزة، من حيث التأزم السكاني والإنساني لتصبح مصدرا للغضب المستمر والتهديد المحتمل، ولذلك فثمة جهة ترى إسرائيل أن عليها أن تتحمل الفائض السكاني الزائد عن حاجتها، وبطبيعة الحال، فالطرح الكلاسيكي الإسرائيلي يتمثل في الأردن، لوجود قناعة لدى الجانب الإسرائيلي بأن الأردن الذي أفلت من وعد بلفور عليه أن يصبح الحل الجاهز لأي مشكلة تواجه إسرائيل على مستوى الأمن والديموغرافيا.
كثيرا ما تحدثت إسرائيل عن الأردن بوصفه فلسطين، بل كانت مائير تسخر من أن الأمر هو مجرد تسميات، فعلى الضفة الأخرى من النهر يمكن للسكان أن يدعوا أنفسهم بالأردنيين أو الفلسطينيين وأن هذا ليس من شأنها، ومع أن الأردن يستطيع أن يوقف عمليات تهجير أو تفريغ سكاني على حسابه، إلا أنه سيبقى دائما مستنزفا في هذه الاحتمالات الإسرائيلية التي لا يمكن تعطيلها إلى من خلال دولة تصبح هي المشكلة أمام إسرائيل، وليس الأردن. في هذه الحالة، يصبح الصراع سياسيا ورمزيا، فالدولة الفلسطينية، مهما كانت تفاصيلها ومواصفاتها، تمثل إسقاطا لنظرية إسرائيلية حول وضع الأردن وجوديا وعمليا، ولكن الأردن لا يستطيع أن يفرض الدولة الفلسطينية ويحتاج إلى تحالف عربي كبير وواسع من أجل إبقائها احتمالا مفتوحا على الأقل، لا تقويضها بخطوة عملية من الجانب الإسرائيلي.
يوجد تشخيص عربي لخطورة ضم الضفة الغربية بوصفه مدخلا مستقبليا لتطبيق إسرائيل الكبرى، أو إبقائها طموحا قائما، بما يعني ضغطا مستمرا ومتواصلا على استمرار إنتاج واستثمار الفوضى في المنطقة العربية، ولكن لا توجد خطوات عملية يمكن أن تحول دون فرض المخططات الإسرائيلية بخصوص مخططات الضم الجزئي أو الكلي، وليس معروفا كيف يمكن الخروج بحل يمنع من تحويل الضفة إلى غزة أخرى، خاصة أن جانبا من انفجار غزة في السابع من أكتوبر كان نتيجة للحصار والتضييق على معيشة أهلها، وهي الوصفة التي تطبق حاليا في الضفة الغربية. هل يمكن للفلسطينيين إنتاج قيادة عابرة للسلطة ومشكلاتها؟ أم يجري استهلاكهم في تفاصيل كثيرة ويومية لإبقاء السلطة في غرفة الإنعاش، لمجرد الوجود الذي ينتج وضعية أكثر هشاشة لعدم طرح حلول واقعية لإدارة الحياة في فلسطين؟
وهل يمكن وجود تحرك عربي للوقوف مع السلطة ليصبح حلا مرحليا في حد ذاته. ربما لا فائدة اليوم من الحديث عن الدولة الفلسطينية إذا كانت في جميع الأحوال تمثل كيانا سياسيا لشعب تختطفه إسرائيل وتمضي في التضييق عليه، والتنكيل به بصورة منهجية ومتواصلة تجعله على حافة انفجار يمكن أن يمنحها المبرر لمواصلة مجزرة اكتشفت أن المجتمع الدولي لا يمتلك أية أدوات لوقفها أو تحجيمها.
ضم الضفة يعني عمليا ثمنا عاجلا يتمثل في إنهاء فرص الوجود الفلسطيني والتوجه إلى الأردن لإنتاج أرضية لتفاعل المشكلات التي تتجنبها إسرائيل، وآجلا، إبقاء إسرائيل الكبرى كابوسا مقيما في المنطقة يقوض أية طموحات تطرح في مشاريع إقليمية أخرى، وعليه، فحصان السلطة المتعب والمرهق عليه أن يبقى واقفا لأن موته يعني الكثير رمزيا وعمليا.
القدس العربي