قبيل اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، الأشخاص من ذوي الإعاقة نحو 2.6% من إجمالي سكان القطاع البالغ عددهم أكثر من مليوني إنسان، وقد زادت هذه النسبة مع توثيق 10 آلف حالة إعاقة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وسط توقعات بارتفاع الرقم.
وتفيد معطيات أممية بأن ما لا يقل عن ربع المصابين في غزة أو 22500 مصاب حتى 23 يوليو/ تموز الماضي، يعانون من إصابات غيرت مجرى حياتهم وتتطلب خدمات إعادة التأهيل الآن ولسنوات مقبلة.
أحمد أبو شعبان، واحد من هؤلاء الآلاف الذين تغيرت حياتهم للأبد، فالشاب الطموح الذي يدرس الهندسة المعمارية في جامعة فلسطين، حمل له صيف تموز 2024 ما لم يتوقعه في أسوأ احتمالات الموت والنجاة طيلة عام من الحرب.
أُجبر أحمد وعائلته على النزوح من منزلهم قاصدين جنوب قطاع غزة استجابة لأوامر الإخلاء القسري، إلى أن استقر بهم الحال في مواصي خان يونس، مثل آلاف الأسر الأخرى التي فرت من قصف المنازل والمناطق السكنية. كانت الحياة في المخيم صعبة، مزدحمة وقاسية، لكن أحمد حاول الحفاظ على الأمل في قلوب عائلته.
وفي أحد الأيام، وبينما كان أحمد عائداً من طريق طويل لنقل المياه، ضربت المنطقة مجموعة صواريخ بشكل مفاجئ، ومعها تغير مجرى حياه إذ أدرك بعد غيبوبة لأيام أنه قدميه قد بُترتا، ويده اليمنى قد اختفت.
كانت صدمة الإصابة تفوق الوصف، يرفض أحمد رؤية جسده الجديد، ويغرق في تساؤلات عن مستقبله، وكيف سيواصل حياته كالمعتاد؟، ففي يومياته الجديدة، أصبح يعتمد بشكل كامل على كرسيه المتحرك، وعلى مساعدة أفراد عائلته في الكثير من الأمور.
ويعد التنقل داخل المخيم المليء بالنازحين أمر معقدًا للشاب الجريح، فالأماكن غير مهيأة لأشخاص في وضعه، بما يعينه على الاستقلالية، يحاول جاهدا التدرب على إمساك الملعقة باليد اليسرى، بينما يساعده شقيقه الأصغر الذي أصبح ذراعه اليمنى على قضاء احتياجاته اليومية.
ووجد تحليل أجرته منظمة الصحة العالمية لأنواع الإصابات الناجمة عن الحرب، أن الإصابات الشديدة في الأطراف، التي يقدر عددها بين 13455 و17550 إصابة، هي العامل الرئيسي الذي يؤدي إلى الحاجة إلى إعادة التأهيل، مشيراً إلى أن العديد من المصابين يعانون من أكثر من إصابة واحدة.
ووفقًا للتقرير الصادر في 12 سبتمبر 2024، بلغ عدد عمليات بتر الأطراف ما بين 3105 و4050 عملية. وتُسهم الزيادات الكبيرة في إصابات النخاع الشوكي والإصابات الدماغية الرضحية وإصابات الحروق الشديدة في العدد الإجمالي للإصابات التي تُغيِّر مجرى الحياة، ويشمل ذلك عدة آلاف من النساء والأطفال.
ويقول الطبيب ناهض أبو طعيمة، مدير مجمع ناصر الطبي في خانيونس، إن ارتفاع إصابات بتر الأطراف بشكل كبير يعود لاستخدام قوات الاحتلال أنواعاً جديدة من الأسلحة تؤدي إلى هذه الإصابات الخطيرة، مشيرا إلى أن تدفق أعداد كبيرة من المصابين يومياً إلى المستشفيات ضاعف احتمالات حدوث إعاقات دائمة للجرحى، مشيراً إلى أثر تأخر نقل بعض الجرحى إلى المستشفيات بمضاعفة أوضاعهم الصحية وصعوبة تعامل الطواقم الطبية معهم.
ويبين أبو طعيمة أن خدمات الرعاية الصحية الأولية والخدمات المُقدّمة على مستوى المجتمع المحلي كثيرًا ما تكون معلّقة أو يتعذر الوصول إليها بسبب انعدام الأمن والهجمات وأوامر إجلاء القسري المتكررة، مشيراً إلى أن المركز الوحيد في غزة لإعادة بناء الأطراف وإعادة التأهيل، الواقع في مجمع ناصر الطبي والذي تدعمه المنظمة، متوقف عن العمل منذ ديسمبر/ كانون الأول/ ديسمبر 2023 بسبب نقص الإمدادات واضطر العاملون الصحيون المتخصصون إلى المغادرة خوفًا على سلامتهم، ثم تعرض المركز للتدمير إثر غارة في فبراير/ شباط 2024.
وتشير التقارير إلى مقتل 39 أخصائي علاج طبيعي حتى 10 مايو/ أيار الماضي.
ويضيف أبو طعيمة أن خدمات إعادة التأهيل وتركيب الأطراف الاصطناعية للجرحة لم تعد متاحة، فأعداد المصابين الذين يحتاجون إلى أدوات مساعدة يفوق بكثير المعدات المتاحة داخل جميع المراكز المتواجدة في قطاع غزة.
ويقول الطبيب ريتشارد بيبركورن، ممثل منظمة الصحة العالمية في الأرض الفلسطينية المحتلة، إن هناك زيادة هائلة في احتياجات إعادة التأهيل تحدث بالتزامن مع التدمير المستمر للنظام الصحي، حيث تعمل 17 مستشفى فقط من أصل 36 مستشفى تؤدي وظائفها جزئيًا في غزة بسبب تهالك الأجهزة والمعدات الطبية، ونقص الأدوية والمستهلكات الطبية، وشح والوقود.
ويضيف: “لا يستطيع المرضى الحصول على الرعاية التي يحتاجون إليها. وتعاني خدمات إعادة تأهيل الحالات الحادة من تعطل كبير، ولا تتوفر رعاية متخصصة للمصابين بإصابات معقدة، وهو ما يعرض حياة المرضى للخطر. وهناك حاجة ماسة إلى الدعم الفوري والطويل الأجل لتلبية الاحتياجات الهائلة في مجال إعادة التأهيل”، معرباً عن أسفه “لأن جزءا كبيرا من القوى العاملة في مجال إعادة التأهيل في غزة نازحون الآن”.
ويواجه الأشخاص ذوو الإعاقة على اختلاف فئاتهم: حركية، سمعية، بصرية، ذهنية – صعوبات هائلة في عمليات النزوح القسري المتكررة؛ لصعوبة حركتهم وحاجتهم لمساعدة الآخرين، في وقت يحاول الجميع أن ينجو بنفسه، وقد سجلت عشرات الحالات لمفقودين أطفال من ذوي الإعاقة الذهنية أو مرضى التوحد.
كما يجد الآلاف من هؤلاء صعوبة بالعثور على مأوى ملائم، والحصول على المياه والغذاء والدواء والأجهزة المساعدة مثل الكراسي المتحركة والمشايات وأجهزة السمع والفرشات الطبية الهوائية للمقعدين حركياً التي يحتاجون إليها بشدة. كما أدى انقطاع الكهرباء إلى صعوبات كبيرة في إجلاء الأشخاص ذوي الإعاقة من المباني المرتفعة.
وهو ما يؤكده قطاع تأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة في شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، محذرا من التداعيات الخطرة للعدوان الإسرائيلي المتصاعد والمستمر في قطاع غزة على واقع الأشخاص ذوي الإعاقة وحياتهم، في ظل الكارثة الإنسانية غير المسبوقة على المستويات كافة.
ووفق بيانات نشرها في 29 يونيو الماضي، فإن المئات من ذوي الإعاقة في غزة قتلوا والآلاف أصيبوا، بالإضافة إلى نزوح عشرات الآلاف من الأشخاص ذوي الإعاقة وتعرضهم لظروف النزوح الصعبة، فضلا عن الصدمات النفسية الصعبة التي يتعرضون لها.
ويؤكد مدير الشبكة أمجد الشوا، أن تدمير جيش الاحتلال البنى التحتية والطرق الرئيسية والمواءمات ومقرات المنظمات العاملة في مجال التأهيل، كما تسبب في الحد من قدرة الأشخاص ذوي الإعاقة على الحركة والوصول إلى الخدمات.
ويوضح الشوا أن هذا الواقع حد من فرص التنقل والإخلاء، ما عرض ويعرض حياة ذوي الإعاقة للخطر الشديد، بالإضافة إلى خسرانهم لأدواتهم المساعدة بسبب تكرار النزوح أو اضطرارهم إلى تركها معتمدين على مساعدة ذويهم.
ويفيد الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بأن عدد ذوي الإعاقة من سكان قطاع غزة بلغ اندلاع الحرب نحو 58 ألف يشكلون 2.6% من إجمالي السكان، مبيناً أن نسبة الإعاقة بين البالغين 18 سنة فأكثر تشكل 3.9%.
وسجل انتشار الإعاقة أكبر نسبة له في محافظة شمال غزة بحوالي 5%، تليها محافظة دير البلح 4.1%. ووفقا لتقديرات الجهاز فقد بلغ عدد الأطفال ذوي الإعاقة في القطاع في العام 2023 لنحو 98 ألف طفل في الفئة العمرية ما بين 2 و17 سنة، منهم حوالي 6 آلاف طفل في الفئة العمرية ما بين 2 و4 سنوات، وما يقارب 92 ألف طفل في الفئة العمرية 5 و17 سنة.
في المقابل شكلت صعوبات التعلم الإعاقة الأكثر انتشارا بين الأطفال في العمر 2 و17 سنة في قطاع غزة ويقدر عددهم بنحو 21,200 في عام 2023، وسط توقعات بارتفاع هذه الأعداد بسبب الصدمات النفسية التي يتعرض لها الأطفال خلال الحرب نتيجة للخوف من الغارات والاجتياحات والنزوح المتكرر أو فقدان أحد الوالدين أو كلاهما.
ويرجح الإحصاء الفلسطيني أن يرتفع عدد الأفراد ذوي الإعاقة نتيجة الحرب إلى ما يقارب 12 ألف فردا بسبب انخفاض قدرات الرعاية الصحية وفرض إغلاق المعابر ومنع المواد الطبية الأساسية من الوصول للقطاع والاستهداف المباشر للمستشفيات ومراكز الرعاية والطواقم الطبية.
ويمثل الواقع الحالي لذوي الإعاقة وعمليات استخدام الأسلحة الفتاكة التي ضاعفت أعداد ذوي الإعاقة، انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في النزاعات المسلحة.
وتنص اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي صادقت عليها إسرائيل في عام 2012، على أن الدول الأعضاء، وفقاً لالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني، بحاجة إلى اتخاذ “جميع التدابير اللازمة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة في حالات الخطر، بما في ذلك حالات النزاع المسلح”.
وبموجب القانون الدولي الإنساني، يجب على الأطراف المتنازعة اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتقليل الضرر اللاحق بالمدنيين/ات، حيث ينص “إعلان حماية المدنيين من استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان”، التي وقعت عليه 83 دولة، على الالتزام بالامتناع عن استخدام الأسلحة المتفجرة ذات التأثيرات واسعة النطاق، بما في ذلك المدفعية الثقيلة والقنابل الجوية، في المناطق المكتظة بالسكان بسبب احتمالية قتلها أو إصابتها المدنيين/ات دون تمييز.